عندما قرّرتُ اقتراف جريمة الكِتابة , كانت غلطة عُمري ..! ,
لأنّني لم أكُن أتوقّع أن يكون عقابي على تلك الجريمة البشِعة في حقّكم , أن يُحكم عليّ بقضاء مُدّة محكوميّتي في قلوبِكم .. أيْ :
أنْ أُسجَنَ داخلَ قلبِ كلّ ضحيّة ..
سامحوني .! ,
الكِتابة والله العظيم بالنّسبة لي ” عبَث ” لو كنتُم تعلمون , عبَث ورفاهيَة .. وأخيراً حاجة ..
بالضّبط كمُتعاطي المخدّر , يبدأ إدمانهُ بعبث , ورفاهيّة … ثمّ يتحوّل إلى حاجة في آخر الأمر ..
وأنا في هذه المرحلة من حياتي الكِتابيّة ّ; ” مُحتاجٌ ” أن آخذ جُرعتي اليَوميّة من الكِتابة , وإلا سأؤذي نفسي .. وأؤذيكُم ..
أنا والله أعتذر لكُم كثيراً أنّني عبثتُ بأذواقَكم , وعقولِكم , و .. قلوبِكم ..
فقضاء مدّة الكِتابة داخل قلب كل واحدٍ فيكم , مُشكلة فِعلاً , لأنّني كاتبٌ فاسِدٌ وأنتُم طيّبون جدّاً .. ولأنّني كاتبٌ سيّءٌ وأنتُم ” جُمَالٌ ” جدّاً…
ولأنّ الأحكامَ عليّ كثيرة , فلن أخرج بسُهولة ..
وبقائي كلّ هذه السّنين في قلوبكم يحمّلني مسؤوليّة كبيرة ..
مسؤوليّة أن أحسّن من ” سيري وسلوكي ” مُدّة السّجن حتى أخرج من قلوبِكم في ثلاثةِ أرباعِ المُدّة .. و .. ” تخلصو ” ..
يعني .! , لنكُن عمليّين , ماذا تقترحون .؟! ..
هل أحفظ نصفَ القُرآن وأسمّعهُ عليكم .؟! , طيّب وربّ المُصحف الشّريف سأفعل ..
هل أنشغل في الكِتابة عن الله , الدّين , الوطن , الأخلاق , … وتمنحوني إطلاقَ سراحٍ مشروط ..؟! , ..
سأكتب والله .
هل أشتغِل ليل نهار في قلوبكم .؟! , أنظّف , وأمسَح , وأغسل , وأجلو ..؟! ..
سأفعل ذلك كلّه ..
لكن ; دعونا نتكلم بصراحة ..
فأنا حتّى وإن توقّفت عن ارتكاب الجرائِم الكِتابيّة مؤخراً , إلا أنّني متّهُمٌ أيضاً بالتّحريض عليها ..
والتّحريض على ارتكابِ الجريمة كارتكابِها تماماً ..
يعني لا فائِدة ..! .
لذلك .! ,
إسمحوا لي أن أشخبطَ على جُدران قلوبكم قليلاً .. أن أتصرّف كطفلٍ عابِث لأول مرة منذُ ستّ وثلاثين سنة ..
– أنا لم أعِش طفولتي على الإطلاق , عشتُ مع جدّي رحمه الله .. وجدّي كان شاعِراً فحلاً بالمناسبة, وقد كان ولازال من أهمّ شعراء البلد ..
ولمّا مات جدي مات كل جسده ماعدا ” جينة ” الشّعر لم تمُت معه ,
” نطّت ” من قلبِهِ كأرنب من قبّعة ساحِر , وركضَت منّا بعيداً , ورفضت أن تُغادرَ معنا ,
أقصد نحن وقافلة القصائِد الطويلة التي حملت نعشَهُ معنا ,
فقصائدُ جدي كانت تمشي معنا في الجنازة , كانت تشيّعهُ , وتبكي عليه , وتصلّي عليهِ , وتقف في صفّ عزائِهِ معنا ..
تلك الجينة التي ورثتها عنه فيما أزعُم , لم تمُت ; بل تحوّلت بقدرةِ قادرٍ إلى قصيدةٍ جديدة , ثمّ وشَمَتْ نفسها في ثالثِ أيّام العزاءِ على ذراعي ..
ولاتزال تلك القصيدة مكتوبة _ لمن يودّ أن يشاهدها _ بخطّ الثلث على يدّيَ اليُمني ..
عشت في مكتبة جدّي بين الكُتب ..
كنتُ أنام بين السّطور , وعلى الأرفف , وبين كتابين , و … هلمّ جرّا ..
وبينما كان أخوتي ينامون في حُضن أمّي ..
كنتُ أتسلّق سلالِم القصائِد الطويلة والقصيرة منها , وأرضى بدور كومبارس في معظم القصص التي قرأتها ..
لكن في نهاية اليوم , لا أقبل بأقل من دور البُطولة ..
كنتُ أنامُ مرّة في حُضن ” عزّة ” , ومرّة في حُضن ” ليلى ” , ومرّات بين ذراعَيْ ” دليلة ” ..
ولم أنم في حضن أمّي مرّة , ولم أحظَ منها حتّى بقُبلة على خدّي , ولم تربّت مرّة على شَعري , ولم تكفكف دموعي كلّما بكيت ,
لذلك توقّفت عن البُكاء ” من وقتها ” .. بعدَما مات طفلٌ صغيرٌ عمره ست سنين وشيّعتهُ من حنجرتي المملوءةِ بالملح ..
ولا أتذكر أنّي اخذتُ يوماً من أبي مصروف المدرسة ,
كنت آخذ مصروفي من ” جميل ” , وكانت ” بثينة ” هي من يرتّب سريري , وشراشفي , ودولاب ملابسي .. وتجهّز لي ساندويشاتي كلّ صباح ..
.
.
وكانَ الله هو المسؤول عنّي ..
وبينما كان الأطفال يجتمعون على الرّصيف المقابل لبيتنا ..
كنت أجلس أنا وشكسبير , وفيكتور هوجو , والمتنبي , وعنترة , والسيرآرثر كونان دويل , ونجيب محفوظ على نفس الطاولة ,
نأكل خُبزاً ساخناً من أقربِ فرنٍ في حارة ” الحرافيش ” ونشرب شاياً وحليباً بالزنجبيل .. ونتحاور في قضايا عديدة ..
حدث كل هذا وعمري عشر سنين .. وكانوا يتعجّبون كيف استطاع هذا الطفل الصّغير أن يستطيل أمامهم ..
كان جدّي _ وهو الذي عرّفني عليهم _ يُشاركنا الحديث أحياناً ثمّ يذهب إلى غرفته لينام ويتركني معهم ,
ثم يتسرّبون بسرعة إن سمعوا صوت أمّي تنادي من عند باب المكتبة .. ويندسّون بين الكُتب والأرفف والأدراج .. حتّى يختفيَ الصّوت .. ثمّ يعودون ..
وكانت أمّي ترجعُ وتشتكيني لأبي وتقول له :
” شوف لك حل , لقد جُنّ الولد يارجُل , إنّه يكلّم نفسه ” .!
وصدّقوني إن قلتُ لكم أنني لم ألعب مع أيّ طفلٍ في حيّنا , بل لم ألعب ايّ شيءٍ على الإطلاق ..
فبينما كان أخي الأصغر يزور أبناء خالتي في العمارة المجاورة ليلعبَ معهم ,
كنت أنا أؤنسُ ” حيّ بن يقظان ” في وحدته ,
وأزور ” روبنسون كروزو” في جزيرته ,
وقمت بزيارات متعددة وسريعة أيضاً لأحدب نوتردام في الكنيسة التي كان يختبيء بها .. واختبأت معه أياماً كثيرة من مطاردات والديّ وإصرارهم بأن أصبِح ..
.
.
” طفلاً ” ..! .
ربّما هذا يفسّر بُكائي المتأخر , بُكائي ” على كَبَر ” ..
بكيتُ كثيراً سنواتي الستّ الأخيرة وربّ الكعبة ,
بكيتُ حتى أحسستُ أنّني دمعة واحدة وكبيرة .. تمشي على قدمين ..
عندما أبكي ..
أشعر أن غابةّ صبّارٍ كبيرة تنمو في قلبي , وقلبي صغيرٌ جداً ولا يتّسع لشوكة ..
أشعر أني أهطُل كلّي دفعة واحدة , وأنا لا أتحمّل الارتطامَ على وجعٍ بتلك الصلابة ..
اشعر أنّ الحُزنَ ينصبُ صيوان عزاءٍ كبيرٍ داخل قلبي , وأنا لا أجيدُ فنّ النّواحِ والولولة ..
وأنا في السّادسة والثلاثين الآن , وقد كبُرت ..
أحتاج لمن ” يطبطب ” على جرحي , وعلى حُزني , وعلى وَجعي ..
ويسمح لي بالبُكاء ..
أحتاجُ لامرأةٍ تصير لي كلّ النساء ,
أحتاجها أمّاً تحتوي طفولتي المتأخرة , وأختاً ألعب معها , وصديقةً تلومُ وتصفح وتلومُ وتصفح وتلوم و … , و ..
حبيبة تفعلُ ذلك كلّه .
.
.
وقد كانَ مُمكناً أن تكون
قد كانَ ممكناً ..
———————————–
06 – 10 – 2004