” ظـلّ النـخـلة الـطـويـل الـذي يـمـتـدّ عـبـر الحـائِـط ويـمـيـل عـلى الجـدار ويـنـتـهي عـلى السّـقـف “
حسين سرحان .
1334هـ – 1413ه
قبل أكثر من أربعٍ وثلاثين عاماً , بدأ كلّ من في العائلة – وكما يسمّي الهُنود الحُمر أنفسهم – يسمّونني :
” الولد القصير الذي ينظر إلى السّقف ” .
في واقع الأمر , وبالفعل كان رأسي مائلاً بدرجة واضحة إلى الأعلى , وأنا أمشي , وأنا أجلس , وأنا أتكلّم , وأنا ألعب , وأنا آكل , وأنا أشرب كان رأسي دائماً مائلاً للأعلى .
وفي الحقيقة أنّ من سمّوني بهذا الإسم , لم ينتبهوا أنّي لم أكن أنظر إلى السّقف , بل كنت منذ السادسة وحتى وصلت لعمر إثنا عشر عاماً , أرفع رأسي باتّجاه نخلة طويلة عالية باسِقة وتتمشّى في بيتنا , ..
جدّي , حسين سرحان .
لأنّه أطول قامة , لأن ظلّه الطويل كان يمتدّ عبر الصّالة ثمّ يميل على الحائط وينتهي في منتصف السّقف , لأنّ التّمر المتدلّي من هذه النخلة كان بعيداً عن عينيّ وعن يديّا , لأنّي – وقتها – كنت نحيلاً وقصيراً وماعندي المقدرة على تسلّق ساقا جدّي , كنت أكتفي بالنّظر إلى فوق , إلى الشِّعر الذي يتكوّن أمامي ولا أستطيع قطفهُ بيديّ , حاولت كثيراً أن أطلع هذه النخلة الطويلة والرشيقة , وفي كلّ مرّة كنت أنزلق من منتصف المسافة إلى الأرض , وأقع , وفي راحتيّ وذراعيّ وفخذيّ خُدوش ونُدوب وما معي ولا بلحَة .
النّخل لا ينحني , لكنّ جدّي برغم ذلك كان منتبهاً من فوق للّسنجاب الصغير الذي كان يحاول تسلّقه لكي يصل إلى البلح , وعندما أقع على الأرض كان يُلقي على رأسي الصّغير بلحة واحدة كلّ يوم , بلحة واحدة فقط , تسقط على رأسي ثم تتدحرج أمام أقدامي .
وكنت أمدّ يدي وألتقطها وآكلها وأنا أنظر إلى الأعلى أيضاً .
لهذا سمّتني جدّتي وهي تضحك عليّ وقتها :
” الولد القصير الذي يأكل البلح المتدحرج أمامه وينظر إلى السقف “
بعد زمَن , انتشر ظل جدّي مرسوماً على الحيطان , وتمدّد على الأرضيّات وعلى الممرات , والأسقف , وأنا لا زلت أنا أبحث عن ساقيْ جدّي , لا زلت ذلك السّنجاب الصّغير ذو الأسنان البيضاء الطويلة , لا زلت الولد القصير الذي ينظر إلى السّقف , ويأكل البلح المتساقط من ذراعي جدّه , أطلق عليّ جدّي بعدما بلغت تسع سنوات وسقطت أسناني الأماميّة ونبتت أخرى مكانها , أخرى بيضاء وطويلة :
” الولد القصير ذو الأسنان البيضاء الطويلة الذي يأكل البلح المتدحرج أمامه وينظر إلى السّقف ” .
وبدأت في جمع البلح عندما بلغت الثانية عشر , وعرفت ما معنى أن أتأمّل َصنعة النّخل في البلح , كيف يتكوّن في مجاميع متناسقة ملوّنة وجميلة ويشدّه خيط واحد أصفر سميك وقويّ , كيف يتناسق , ولا يختلف , كيف يتناغم ولا يتنافر . كيف يصبح حُلواً , سكّر , طيّب , يُبهج , يرفع المِزاج .
عرفت قيمة البلح , وصرت أجمّع البلح وآكل بعضه وأخبّيء بعضه , وأصبح الّسنجاب الصّغير يقرض الشّعر بأسنانه وينظر إلى السّقف , وسمّاني جدي عندها :
” الولد القصير ذو الأسنان البيضاء الطويلة الذي يجمع البلح ويقرض جزءًا منه وينظر إلى السّقف ” .
جدي الذي أسميه اليوم :
” ظلّ النخلة الطويل الذي يمتدّ عبر الحائِط ويميل على الجدار وينتهي على السّقف ” , توقّف عن إنتاج التّمر , ومات , لكنّي كنت محتاطاً ليوم كهذا , جمعت محصول سنين , وعندي 34 شوالاً من البلح الأحمر الحُلو , يسمّوني الآن في السّماء – جدّي وأصدقاؤه فوقنا – ” الولد الطويل ذو الأسنان البيضاء الطويلة والجميلة الذي جمع البلح الأحمر الحلو وأصبح ينظر إلى السّماء ” .
حسين سرحان .
هو الظل , والجدار , والنّخل الذي نبت في بيتنا , وما أكتبه لكم منذ سنوات هو البلح الأحمر الذي جمعه ” الولد القصير الذي كان ينظر إلى السّقف “
ربما لم يحدث أن أخبرتك أن هذا الجزء من ذاكرتك كان جميلا، لا بل أني قد قرأته ملياً ومرارا ..
برافو يا مازن في كل حرف (F)
مبروك لنا
صباحك سعادة