زامل سرحان
1359 – 1434
——————————————————-
كان جدّي الكلام , وكان أبي البئر .
كان بئراً عميقاً لدرجة أنّ حسين سرحان لم يكُن يلقي أيّ شيء فيه , بل كان يخلع كل ملابسه , و يأخذ معه كل همومه , وكل علاقاته , وكل أسراره , ويُلقي بنفسهِ دفعة واحدة داخله , ويغيب عنّا يوما واحداً , او اثنين , ثم يعود للدنيا مبللا بالشّعر وبالكلام الجميل .
لكن جدّي لم يعد بعد يوم أو اثنين منذ آخر مرة قفز فيها إلى صدر أبي , قفز وفي يده حقيبة سفره وبكامل ملابسه هذه المرة ..
منذ أن غاب حسين سرحان آخر مرة في العام 1413, لم يعد ; وبكى عليه زامل بطريقة مختلفة وغريبة أفزعتني , حيث كان الماء يدخل إلى عينيه ولا يعود ; أصبح هذا النوع من البكاء مألوفا لديّ الآن .
الآن مضى على غياب جدّي عشرون سنة ولم يعد من داخل البئر , وفهمت أن جدّي توفّى , وفهمت أن أبي توقف عن البكاء , ومرض البئر بعدما مات الكلام .
قبل خمس سنوات ماعاد عميقاً صدر أبي , وكنّا نُلقي في داخله كلاماً وندعو ربّنا أن ترتد إلينا قصيدة ..
وكان الكلام يعود سريعاً , وحيداً , وجافاً , وبلا أي قصيدة برفقته , ماعاد عميقاً بئر جدّنا , وفهمنا أيضا وقتها أنّ البئر لا يعيد سوى كلام صاحبه الذي ألقى بنفسه فيه منذ عشرين سنة ولم يعد .
قبل أيّام عندما وقفنا على القبر المفتوح أنا وإخوتي لم نذرف دمعة واحدة , أصبحنا نعرف أنّ بئراً بذاك العمق لا يمتليء بهكذا ماء .
فبدأنا نبكي مثلما كان يبكي هو , بطريقة مختلفة , وغريبة , ومفزعة , كان الماء يدخل إلى أعيننا ولا يعود .