[ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ | فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ | فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ | إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ] *
* الأنعام | الآيات ( 76 , 77 , 78 , 79 )
——————————-
الحبّ والإيمان ..
والحيرة بينَ الجسَد والرّوح , بينَ المحسوس والملموس , بينَ الحُضور والغِياب , بينَ العقل واللا عقل , بينَ المنطق والعبَث , بينَ الشكّ والإيمان ..
رحلة البحثِ عن الربّ , تشبهُ _ من وجهة نظري الشّخصيّة _ رحلة البحثِ عن الحبّ ,
رحلة الأنبياء , والفلاسِفة , والقدّيسين , تشبه رحلة العُشّاق بحقّ / عُشّاق الرّوح ..
هي رحلة البحثِ عن الواحدِ / الوحيدِ / المتفرّدِ / الأكبرِ / المُطلَق / الذي لا يُشاركهُ أحد ..
إلا أنّ رحلة البحث عن الربّ تبدأ بأسئلة , ورحلة البحث عن الحبّ تنتهي بأسئلة ..
الباحث عن الربّ يشكّ ثم يؤمن , والباحث عن الحبّ يؤمن ثمّ يشكّ .! .
الباحث عن الربّ يبحث عن أجوبة , والباحثُ عن الحبّ يعثرُ على الأجوبة مقدّماً , يعثرُ على كلّ الأجوبة , ..
يجدها معلّبة وجاهزة في بيوت الشّعر , في القصصِ , في الحِكايات القديمة , في قلوب العاشقين والحَزَانى والمجانين , …
.
.
.
أمثالي .! ..
يعرف العاشِقُ كلّ الأجوبة ; قبل أن يبدأ رحلته ..
ثمّ لسببٍ نجهل لماذا يحدث ..! , ولظرفٍ لا نعلم متى يحدث ..! , وبأسلوب لا نعرف كيف يحدث ..! , ..
يفقدها / ينساها / يضيّعها أوّل ما يُحِبّ , ..
لذلك نجد أنّ كلّ من ينظـّر في الحبّ قبل أن يعثر على نصفهِ الآخر , يُصبحُ جاهلاً بهِ عندما يجده ..
يبدأ في السؤال ; وقد كان قبل ذلك يملك كل الأجوبة ,
يبدأ في الحيرة ; وقد كان قبل ذلك يعرف طريق العاشقين ,
يبدأ في التعثّر ; وقد كان قبل ذلك ” واثقُ الخطوةِ يمشي ملكاً ” ..
شرَط إبراهيم إيمانهُ بالربّ بالحُضور , ..
وعلى الأدقّ ; الاستمرار في الحُضور , أي ألا يغيب , .. أبداً ..
أن يكون هائِل الحجم ; أي ألا يكون هناك من هو أكبر منه , .. على الإطلاق ..
أن يكُون مؤثّراً ; أي ألا يكون هناك من يفوقهُ تأثيراً ..
ألسنا نعرّف الحبّ هنا ؟! ..
و _ في نفس الوقت _ يعتبر العاشق أنّ حُبّ عمره هو الذي لا ينقطع , بل يستمر , ويستمر , ويستمر إلى ما لانِهاية , ..
هو الخالد دوماً ; الخالدُ الذي لا يموت ..
هو الحاضر دوماً ; الحاضر الذي لا يغيب ..
هو الكبير دوماً ; الأكبر على وجهِ الدّقّة .. الذي يُنير حياته , ويؤثّر فيها , الذي يهبهُ السّعادة , السّعادة الدائمة ..
ألسنا نصف الربّ هنا ؟! .
لكنّ إبراهيم وجدَ _ في النّهاية _ أنّهُ صارَ يعبُدَ ربّا غير مرئيّ , ..
والعاشق يكتشف _ دائِماً _ في النّهاية أنّ حبّ العمر أقربُ من أن يطالبهُ بالحُضور , ..
أعظمُ من أن يكفر بهِ لمجرّد أنهُ لا يراه , ..
أكبرُ من أن يقيسهُ بآخر ; كما فعل إبراهيم عندما قاس الكوكب بالقمر بالشّمس .. و … وتعب ! , ..
تعبَ لأنّ الربّ لا يُقاس بأيّ شيءٍ , لا يُقارن , لا مثيل له ..
ونحن سنتعبُ , سنتعبُ جداً ..
لأن الحبّ الحقيقيّ لا يُقاس بأي مشاعِر أخرى , لأنّ الحبيب لا مثيل له ..
لم يكن إبراهيم لِيؤمن بربّ يغيب , ولم يكن لِيؤمن بربّ أقلّ حجماً , ولم يكن لِيؤمن بربّ أقل تأثيراً ..
والعاشق يؤمن بحضور الحبيب , ووجوده , وهيبته , ولا يؤمن بحبّ أقلّ مساحة , ولا أقل تأثيراً , ولا أقل حجماً ..
يكتشف العُشّاق العارفين بسِكَكِ الهَوى ; أنّ الحُضور الروحيّ للحبيب أقوى من الحُضور الجسديّ , ..
مؤخراً يكتشفون ذلك , مؤخراً ; في مرحلة متأخّرة من الحبّ ..
عندها يتحوّل الشكّ إلى إيمانٍ مرّة أخرى ..
في مرحلة الشّك يبحث العاشق عن المادّة , عن الملموس , عن الجسد , ..
في مرحلة الإيمان يلمس العاشقُ الرّوحَ بالروحِ , يؤمن بالله وبالحبيب معاً لأنّهما أبعد وأكبر من أن يتجسّدا ..
” الله مـَـحـَـبــّــة ” :
هكذا يقول المسيحيون , ..
فكّروا معي في الله قليلاً ..
فكّروا ! , ..
وستكتشفون ; لماذا صارت عاطفة الحبّ _ من أوّل التاريخ _ هي أول وآخر فصلٍ في كلّ حكاية , ..
أوّل وآخر قافية في كلّ قصيدة , ..
أوّل وآخر نوتة في كلّ مقطوعة موسيقيّة , ..
حتّى في الحِكايات المقدّسة كان الحبّ أول آية وآخر آية , أول سفرٍ وآخر سفر , أوّل مزمور وآخر مزمور , أوّل وصيّة وآخر وصيّة ..
إقرأوا ..
حتّى الأنبياء / والقدّيسين / والصّالحين / والرّهبان …… ..
أحبّوا , وتعذّبوا , وسُجِنوا , وقُتِلوا , و .. اضطروا لمخالفة كلّ القيَم _ في لحظة ضعفٍ سجّلها التاريخ _ من أجل شيءٍ اسمهُ الحبّ .
كان هاجس الغِياب عن القلب والعين هو المبرّر الأول , وكان هاجس الحُضور المادّي المستمرّ هو المبرر الآخر ..
أول جريمة قتل كانت بسبب الحبّ ; قابيل ابن أبونا آدم قتل أخيه هابيل من أجل امرأة , غيّب أخيهِ إلى الأبد لتحضر المرأة التي يحب .. إلى الأبد .. كانت ” بلوزا ” أخته .
إبراهيم النبيّ طلب من المرأة التي معه في مصر أن تدّعي أنها أخته لأنه خشيَ أن يُقتَل بسببها .. فكذبت لأنّها تحبّه , خافت أن يغيب ..
تلك المرأة هي زوجتهُ “سارا” .
يوسف الصّدّيق سُجِن لأنّ امرأة أحبّته , وهمّ بها , غاب في السّجن بضع سنين , تلك المرأة هي .. ” زُليْخة ” . .
سليمان جيّش الجنّ والعفاريت , والطّيور , والرّجال لإحضار امرأة واحِدة , .. امرأة اسمها ” بلقيس ” ..
امرأة تسبّبت في قطع رأس النبيّ يحيى لأنّهُ صدّها بعدما أحبّته , غيّبتهُ عن الدّنيا كلّها لأنّه رفض الحُضور لدنياها .. تلك المرأة اسمها ” سالومي ” الراقصة .
الحُضور / الغِياب , هما طرفي المعادلة في ما نسميه ” حب ” ..
الحبّ الغائِب عن أعيننا , ..
يسكننا جداً , يسكننا هناك عميقاً جداً , بعيداً جداً ..
لذلكَ قد لا نراه بالعين ..
و .. قريباً جداً , جداً , جداً ..
لأنّه يسكنُ القلب , لأنه يسكنُ الروح , لأنه يسكنُ العقل .
[ يبدأ الأنبياء دعوتهم سِرّا , ولمّا يتعاظم الأمر تُصبحُ دعوتهم جهريّة ,
ويبدأ العُشّاق علاقتهم سرّاً , ولّما يتفاقم الأمر تصبحُ قصّتهم حديث المدينة * ]